البوابة
قرأت الكثير من الكتب والمقالات التي تحدثت عن حياة آية
الله السيد محمد باقر الصدر (قدس)وعن صراعه المرير مع السلطة الدكتاتورية
الحاكمة في العراق ، وبالخصوص الفصول الأخيرة من حياته وكيفية اعتقاله في
النجف الأشرف ونقله الى بغداد ثم إعدامه هناك وإعادته الى النجف ليلاً وهو
جثة هامدة في (كيس نايلون). قرأت كل هذا ولكن لم أقرأ عن الكيفية التي تم
فيها اعدام السيد الصدر(قدس) ، وقد تضاربت الأقوال في ذلك ،فمن قائل انه قد
نفذ فيه الاعدام شنقاً في مديرية الأمن العامة ، وآخر يقول: بأنه نفذ فيه
الاعدام رمياً بالرصاص من قبل جلادي النظام البعثي وبأمر من صدام ، ومنهم
من قال بأن السيد الصدر قد استشهد تحت التعذيب الهمجي الشديد الذي تعرض له
في مقرات المخابرات والأمن العامة . وكل هذه الاخبار لم تستند الى شاهد
عيان واحد ، وبما انه لم تكن هناك شهادة او وثيقة وفاة تبين اسباب الوفاة،
وان الشخص الوحيد الذي استطاع رؤية السيد الشهيد بعد وفاته هو العلامة
المرحوم السيد محمد صادق الصدر والد السيد الشهيد الثاني (قدس سرهما)
وحينما جاؤوا به ليلاً من داره الى مقر أمن النجف لاستلام الجثمان الطاهر،
فإن السيد محمد صادق لم يروِ لنا الكيفية التي استشهد فيها السيد محمد باقر
الصدر وفي آخر حياته قال (قدس) لبعض ثقاته :رأيت الجثة وكان عليها آثار
التعذيب الشديد ولم يوضح السيد للمقربين ماهي طبيعة وشكل ذلك التعذيب وفي
أي منطقة من جسده (قدس) .. ولكن ليس بالنسبة لي!! ففي سنة 1998م روى لي أحد
منتسبي مديرية الأمن العامة والذي كان يعمل بصفة مفوض كاتب في قلم سجن
المديرية عن كيفية إعدام السيد الصدر قائلاً : *كان السيد الصدر ( قدس )
مودعا ً لدينا في سجن المديرية ولحساب عدة أجهزة أمنية كجهاز المخابرات
والاستخبارات والأمن القومي وكانت تلك هي المرة الثالثة ، وكانت تلك الجهات
تتعاقب على أخذه يومياً لغرض التحقيق في أول كل ليلة وتعيده إلينا قبل
الفجر ، وكنت أرى علامات التعذيب والارهاق على وجهه ويديه وقدميه في كل مرة
يعيدونه إلينا وكنت أستلمه منهم بصفتي مسؤول قلم السجن حتى نودعه في إحدى
زنزانات المديرية الخاصة .. وفي المرة الأخيرة وكان الوقت عصراً جائت
مجموعة من عناصر المخابرات وبرفقتهم مدير الأمن العامة وهم على عجلة من
أمرهم !! وأمرني المدير ان أفتح لهم باب الزنزانة التي كان السيد معتقلاً
فيها ، دخل اثنان منهم وتكلما معه بكلام لم أسمعه جيداً ، ثم طلبا مني
الأصفاد مع المفتاح ووضعاها في يديه وخرجا به الى ساحة المديرية حيث تقف
هناك سيارات تابعة للقصر الجمهوري فأركبوه في أحداها وأمرني المدير ان أركب
معه في سيارته وكانت تلك أول مرة أكون برفقة مدير الأمن العامة ، وفي
الطريق إلتفت إلي المدير وقال بلهجة التحذير : اسمع يا........سنذهب الى
القصر الجمهوري لأن السيد الرئيس يريد أن يقابل الصدر فإياك ان تتحدث بما
ترى أو تسمع ؟ فقلت : نعم سيدي . دخلت السيارة من الباب الرئيسي للقصر
الجمهوري ثم استدارت على الطريق الذي يؤدي الى الحديقة الخلفية للقصر ،
توقفنا هناك وجاء أحد رجال المخابرات وقال لمدير الأمن : أنتم تنتظرون في
هذا المكان وبدون حركة أو كلام !!ثم ترجلنا ووقفنا قرب السيارة .. كانت
الحديقة كبيرة جداً وكان قرب الباب الخلفي للقصر كرسي يجلس عليه الطاغية
صدام وأمامه طاولة كبيرة ،كان يبدو في وقت استراحته حيث كان يرتدي فانيلة
بيضاء مع (تراكسود رياضي أزرق )شاداً على وسطه نطاق عسكري عريض وحاشراً
مسدسه الضخم تحته!! وأراد اثنان من رجال المخابرات ان يتقدما باتجاه
الحديقة فاعترضهم عناصر الحماية الشخصية لصدام وأخذوا السيد منهم وأمروهم
بالتراجع الى حيث أقف انا ومدير الأمن والسائق ، وتقدموا حتى وصلوا بالقرب
من صدام وقد رأيته نهض من كرسيه ثم عاد إليه ، ولا أدري هل ان السيد قد
ألقى السلام على صدام أم لا ؟ لأنني لااسمع الكلام بدقة حيث ان المسافة
كانت أكثر من مئة متر تقريباً .. بقي السيد واقفاً امام صدام وهو مقيد
اليدين ،وابتعد عنه رجال الحماية وكان رحمه الله يرتدي دشداشة سوداء ويشماغ
أحمر مع سروال أبيض ، وبدأ الكلام بين السيد وصدام ورأيت صداماً منفعلاً
ومتوتراً جداً حيث نهض أكثر من مرة عن كرسيه وذهب الى باب القصر الخلفي ثم
عاد وهو يزعق ويصيح ويحرك يديه بقوة ويؤشر على السيد بأصبعه ، وكان السيد
واقفاً في مكانه ولم أشاهد السيد قد تحرك سوى انه عندما يخاطب صداماً يرفع
رأسه الى الأعلى وكان صدام يصغي إليه أحياناً ويهز رأسه كاليائس منه . كان
الخوف بادياً على الجميع وخصوصاً مدير الأمن الذي كان يرتجف كالسعفة في مهب
الريح وحتى رجال الحماية القريبين منا رأيت وجوههم قد اصفرت من الخوف وهم
ينظرون الى ذلك المشهد ... وفجأة ً ارتفع صوت صدام ونهض من كرسيه مرة أُخرى
وضرب الطاولة بقدمه بشكل ٍ هستيري ثم تراجع بضع خطوات الى ورائه ووضع يده
اليمنى على مسدسه وأشار بالأخرى باتجاه السيد وهو يقسم بصوت عال : (بشرفي
.. بشرفي )وكأنه يطلب منه جواباً فرأيت السيد رفع وجهه( وأنا أقسم على ذلك)
وفتح فمه بكلمة ( لا ) وهز رأسه علامة الرفض !!فما كان من صدام الاّ أن
أخرج مسدسه وأطلق أكثر من رصاصة على وجه السيد حتى رأيته قد هوى على
الطاولة وارتطم بها ثم عاد وهو يحاول ان يرفع يديه المقيدتين ليتقي بهما
الرصاص المنهمر من مسدس صدام حتى تهاوى على عشب الحديقة!! وبقي صدام يلوّح
بمسدسه منفعلاً ثائراً كأنه الثورالهائج وهو يشتم ويسب ويتهجم ويطلق الرصاص
في الهواء بحيث خرج أكثر رجال الحماية من جنبات القصر وأحاطوا بالمكان
ومنهم من جاؤوا وأحاطوا بجسد السيد المضرج بالدماء وهم يشهرون أسلحتهم
باتجاهه!! وبعد لحظات جائنا أحد رجال المخابرات وأمر مدير الأمن ان يركب
سيارته ويعود الى المديرية فوراً !!وعدنا الى المديرية ونحن بغاية الخوف
والرعب من ذلك المشهد المخيف الذي لم أر مثله في حياتي .. وكان هذا آخرعهدي
بهذه القضية حتى سمعت بعد سنوات وبعد تركي العمل في مديرية الأمن العامة
بأن السلطات البعثية قد سلمت جثمان السيد الصدر الى مديرية أمن النجف..
وأقول : ان الذي دعاني لذكر هذه الرواية و الكيفية التي اُستشهد فيها السيد
محمد باقر الصدر هو عدم وجود رواية أخرى عن كيفية إعدامه رغم تحفضي عليها
أكثر من تسع سنوات مضت ، وبسبب تعهد أخلاقي لشاهد العيان الذي روى لي
الحادثة ولكن وبعد ان طلبت منه أن أجهر بالحقيقة وافق بشرط أن لاأذكر له
اسماً ولا عنواناً ....والأمر الآخر هو قول بعض الجهلاء ممن يدعون أنهم
يفهمون بالقانون الجنائي بأن قضية الدجيل لم يكن فيها مستمسك جرمي وقانوني
مباشر يدين صدام ويستدعي اعدامة لأنه على حد زعمهم لم يباشر القتل بنفسه !!
وها قد سمعتم كيف أن صداماً قد أطلق الرصاص على وجه (مفكرالعصر ومفخرة
الدهر) بتلك الطريقة الوحشية الهمجية التي لم نرها حتى في أفلام عصابات
الكابوي! فهل يكفي هذا المستمسك الجرمي (ياأدعياء القانون والعدالة) لإدانة
وإعدام القائد الضرورة؟!!
